الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وسئل مَيْمُون بن مِهْرَان عن كلام المرجئة، فقال: أنا أكبر من ذلك، وقال سعيد بن جبير لذر الهمداني: ألا تستحي من رأى أنت أكبر منه؟! وقال أيوب السِّخْتِيَاني: أنا أكبر من دين المرجئة، إن أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل المدينة من بني هاشم يقال له: الحسن. وقال زاذان: أتينا الحسن بن محمد فقلنا: ما هذا الكتاب الذي وضعت؟ وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة، فقال لي: يا أبا عمر، لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب أو أضع هذا الكتاب، فإن الخطأ في اسم الإيمان ليس كالخطأ في اسم محدث ولا كالخطأ في غيره من الأسماء، إذ كانت أحكام الدنيا والآخرة متعلقة باسم الإيمان والإسلام والكفر والنفاق. وأحمد ـ رضي الله عنه ـ فرق بين المعرفة التي في القلب وبين التصديق الذي في القلب، فإن تصديق اللسان هو الإقرار،وقد ذكر ثلاثة أشياء،وهذا يحتمل شيئين:يحتمل أن يفرق بين تصديق القلب ومعرفته،وهذا قول/ ابن كلاب والقلانسي،والأشعري وأصحابه يفرقون بين معرفة القلب وبين تصديق القلب،فإن تصديق القلب قوله.وقول القلب عندهم ليس هو العلم، بل نوعًا آخر؛ولهذا قال أحمد:هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج إلى أن يكون مصدقا بما عرف ؟ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقرًا ومصدقًا بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، فإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق، فقد أتى عظيمًا ولا أحسب امرءًا يدفع المعرفة والتصديق. والذين قالوا: الإيمان هو الإقرار. فالإقرار باللسان يتضمن التصديق باللسان. والمرجئة لم تختلف أن الإقرار باللسان فيه التصديق، فعلم أنه أراد تصديق القلب ومعرفته مع الإقرار باللسان، إلا أن يقال: أراد تصديق القلب واللسان جميعًا مع المعرفة والإقرار، ومراده بالإقرار الالتزام لا التصديق، كما قال تعالى: وأحمد قال: لابد مع هذا الإقرار أن يكون مصدقًا، وأن يكون عارفًا، وأن يكون مصدقًا بما عرف.وفي رواية أخرى:مصدقًا بما أقر،وهذا يقتضي أنه لابد من تصديق باطن، ويحتمل أن يكون لفظ التصديق عنده يتضمن القول والعمل جميعًا،كما قد ذكرنا شواهده أنه يقال:صدق بالقول والعمل. فيكون تصديق القلب عنده يتضمن أنه مع معرفة قلبه أنه رسول الله قد خضع له وانقاد، فصدقه بقول قلبه وعمل قلبه محبة وتعظيمًا، وإلا فمجرد معرفة قلبه أنه رسول الله مع الإعراض عن الانقياد له ولما جاء به إما حسدًا وإما كبرًا، وإما لمحبة دينه الذي يخالفه وإما لغير ذلك، فلا يكون إيمانًا، ولابد في الإيمان من علم القلب وعمله،فأراد أحمد بالتصديق أنه مع المعرفة به صار القلب مصدقًا له،تابعًا له، محبا له، معظمًا له، فإن هذا لابد منه، ومن دفع هذا عن أن يكون من الإيمان، فهو من جنس من دفع المعرفة من أن تكون من الإيمان،وهذا أشبه بأن/يحمل عليه كلام أحمد؛ لأن وجوب انقياد القلب مع معرفته ظاهر ثابت بدلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، بل ذلك معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ومن نازع من الجهمية في أن انقياد القلب من الإيمان فهو كمن نازع من الكرامية في أن معرفة القلب من الإيمان فكان حمل كلام أحمد على هذا هو المناسب لكلامه في هذا المقام. وأيضًا، فإن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد الذي يجعل قول القلب أمر دقيق، وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما، وأكثر الناس لايتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه، ويقولون: إن ما قاله ابن كلاب، والأشعري من الفرق، كلام باطل لا حقيقة له، وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق، وعمدتهم من الحجة إنما هو خبر الكاذب، قالوا: ففي قلبه خبر بخلاف علمه، فدل على الفرق. فقال لهم الناس: ذاك بتقدير خبر وعلم ليس هو علمًا حقيقيًا ولا خبرًا حقيقيًا، ولما أثبتوه من قول القلب المخالف للعلم والإرادة، إنما يعود إلى تقدير علوم وإرادات لا إلى جنس آخر يخالفها. ولهذا قالوا: إن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بقلبه خبر بخلاف علمه، وإنما يمكنه أن يقول ذلك بلسانه، وأما أنه يقوم بقلبه خبر بخلاف ما يعلمه، فهذا غير ممكن، وهذا مما استدلوا به على أن الرب ـ تعالى ـ لا يتصور قيام الكذب/بذاته؛ لأنه بكل شيء عليم، ويمتنع قيام معنى يضاد العلم بذات العالم، والخبر النفساني الكاذب يضاد العلم. فيقال لهم: الخبر النفساني لو كان خلافًا للعلم لجاز وجود العلم مع ضده كما يقولون مثل ذلك في مواضع كثيرة، وهي من أقوى الحجج التي يحتج بها القاضي أبو بكر وموافقوه في مسألة العقل وغيرها، كالقاضي أبي يعلى، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان،وأبي الطيب، وأبي الوليد الباجي، وأبي الخطاب، وابن عَقِيل وغيرهم، فيقولون: العقل نوع من العلم، فإنه ليس بضد له، فإن لم يكن نوعًا منه كان خلافًا له، ولو كان خلافًا لجاز وجوده مع ضد العقل، وهذه الحجة وإن كانت ضعيفة ـ كما ضعفها الجمهور، وأبو المعالي الجويني ممن ضعفها ـ فإن ما كان مستلزمًا لغيره لم يكن ضدا له، إذ قد اجتمعا، وليس هو من نوعه، بل هو خلاف له على هذا الاصطلاح الذي يقسمون فيه كل اثنين إلى أن يكونا مثلين، أو خلافين أو ضدين، فالملزوم كالإرادة مع العلم أو كالعلم مع الحياة، ونحو ذلك ليس ضدًا ولا مثلاً، بل هو خلاف، ومع هذا فلا يجوز وجوده مع ضد اللازم، فإن ضد اللازم ينافيه، ووجود الملزوم بدون اللازم محال، كوجود الإرادة بدون العلم، والعلم بدون الحياة، فهذان خلافان عندهم، ولا يجوز وجود أحدهما مع ضد الآخر. كذلك العلم هو مستلزم للعقل، فكل عالم عاقل، والعقل شرط في العلم، فليس مثلاً له ولا ضدًا ولا نوعًا منه، ومع هذا لا يجوز وجوده مع ضد العقل،/ لكن هذه الحجة تقال لهم في العلم مع كلام النفس الذي هو الخبر، فإنه ليس ضدًا ولا مثلاً، بل خلافًا، فيجوز وجود العلم مع ضد الخبر الصادق وهو الكاذب، فبطلت تلك الحجة على امتناع الكذب النفساني من العالم، وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق وبين تصديق قلبه تصديقًا مجردًا عن انقياد وغيره من أعمال القلب بأنه صادق.ثم احتج الإمام أحمد على أن الأعمال من الإيمان بحجج كثيرة، فقال: وقد سأل وفد عبد القيس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال:(شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا خمسًا من المغنم)، فجعل ذلك كله من الإيمان. قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء شعبة من الإيمان)،وقال:(أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا)، وقال: (إن البَذَاذَة من الإيمان). وقال:(الإيمان بضع وستون شعبة، فأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرفعها قول لا إله إلا الله) مع أشياء كثيرة،منها: (أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة المنافق:(ثلاث من كن فيه فهو منافق) مع حجج كثيرة. وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في تارك الصلاة وعن أصحابه من بعده، ثم ما وصف الله ـ تعالى ـ في كتابه/ من زيادة الإيمان في غير موضع، مثل قوله: قال أحمد: ويلزمه أن يقول: هو مؤمن بإقراره، وإن أقر بالزكاة في الجملة ولم يجد في كل مائتي درهم خمسة، أنه مؤمن، فيلزمه أن يقول: إذا أقر ثم شد الزُّنَّار في وسطه وصلى للصليب وأتى الكنائس والبيعَ وعمل الكبائر كلها إلا أنه في ذلك مقر بالله؛ فيلزمه أن يكون عنده مؤمنًا، وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم. قلت: هذا الذي ذكره الإمام أحمد من أحسن ما احتج الناس به عليهم، جمع في ذلك جملاً يقول غيره بعضها، وهذا الإلزام لا محيد لهم عنه. ولهذا لما عرف متكلمهم مثل جَهْم ومن وافقه أنه لازم التزموه، وقالوا: لو فعل/ ما فعل من الأفعال الظاهرة لم يكن بذلك كافرًا في الباطن، لكن يكون دليلاً على الكفر في أحكام الدنيا، فإذا احتج عليهم بنصوص تقتضي أنه يكون كافرًا في الآخرة. قالوا: فهذه النصوص تدل على أنه في الباطن ليس معه من معرفة الله شيء، فإنها عندهم شيء واحد، فخالفوا صريح المعقول وصريح الشرع. وهذا القول مع فساده عقلاً وشرعًا، ومع كونه عند التحقيق لا يثبت إيمانًا، فإنهم جعلوا الإيمان شيئًا واحدًا لا حقيقة له. كما قالت الجهمية ومن وافقهم مثل ذلك في وحدة الرب: إنه ذات بلا صفات، وقالوا بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وما يقوله ابن كلاب من وحدة الكلام وغيره من الصفات. فقولهم في الرب وصفاته وكلامه والإيمان به يرجع إلى تعطيل محض، وهذا قد وقع فيه طوائف كثيرة من المتأخرين المنتسبين إلى السنة والفقه والحديث المتبعين للأئمة الأربعة، المتعصبين للجهمية والمعتزلة بل وللمرجئة أيضًا، لكن لعدم معرفتهم بالحقائق التي نشأت منها البدع يجمعون بين الضدين، ولكن من رحمة الله بعباده المسلمين أن الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدق، مثل الأئمة الأربعة وغيرهم؛ كمالك، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد،وكالشافعي وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، كانوا ينكرون على أهل الكلام من الجهمية قولهم في القرآن والإيمان وصفات الرب، وكانوا متفقين على ما كان عليه السلف من أن الله يرى في الآخرة، وأن/ القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الإيمان لابد فيه من تصديق القلب واللسان، فلو شتم الله ورسوله كان كافرًا باطنًا وظاهرًا عندهم كلهم، ومن كان موافقًا لقول جهم في الإيمان بسبب انتصار أبي الحسن لقوله في الإيمان، يبقى تارة يقول بقول السلف والأئمة، وتارة يقول بقول المتكلمين الموافقين لجهم، حتى في مسألة سب الله ورسوله رأيت طائفة من الحنبليين،والشافعيين والمالكيين، إذا تكلموا بكلام الأئمة قالوا:إن هذا كفر باطنًا وظاهرًا. وإذا تكلموا بكلام أولئك قالوا: هذا كفر في الظاهر، وهو في الباطن يجوز أن يكون مؤمنًا تام الإيمان، فإن الإيمان عندهم لا يتبعض، ولهذا لما عرف القاضي عياض هذا من قول بعض أصحابه أنكره، ونصر قول مالك وأهل السنة، وأحسن في ذلك. وقد ذكرت بعض ما يتعلق بهذا في كتاب [الصارم المسلول على شاتم الرسول]، وكذلك تجدهم في مسائل الإيمان يذكرون أقوال الأئمة والسلف، ويبحثون بحثًا يناسب قول الجهمية؛ لأن البحث أخذوه من كتب أهل الكلام الذين نصروا قول جهم في مسائل الإيمان. والرازي لما صنف [مناقب الشافعي] ذكر قوله في الإيمان. وقول الشافعي قول الصحابة والتابعين، وقد ذكر الشافعي أنه إجماع من الصحابة والتابعين. ومن لقيه استشكل قول الشافعي جدًا؛ لأنه كان قد انعقد في نفسه شبهة أهل البدع في الإيمان؛ من الخوارج والمعتزلة والجهمية والكرامية/وسائر المرجئة،وهو أن الشيء المركب إذا زال بعض أجزائه لزم زواله كله، لكن هو لم يذكر إلا ظاهر شبهتهم. والجواب عما ذكروه هو سهل، فإنه يسلم له أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت، لكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء. والشافعي مع الصحابة والتابعين وسائر السلف يقولون: إن الذنب يقدح في كمال الإيمان، ولهذا نفى الشارع الإيمان عن هؤلاء، فذلك المجموع الذي هو الإيمان لم يبق مجموعًا مع الذنوب، لكن يقولون بقى بعضه؛ إما أصله وإما أكثره وإما غير ذلك، فيعود الكلام إلى أنه يذهب بعضه ويبقى بعضه. ولهذا كانت المرجئة تنفر من لفظ النقص أعظم من نفورها من لفظ الزيادة؛ لأنه إذا نقص لزم ذهابه كله عندهم إن كان متبعضًا متعددًا عند من يقول بذلك، وهم الخوارج والمعتزلة. وأما الجهمية فهو واحد عندهم لا يقبل التعدد، فيثبتون واحدًا لا حقيقة له، كما قالوا مثل ذلك في وحدانية الرب ووحدانية صفاته عند من أثبتها منهم. ومن العجب أن الأصل الذي أوقعهم في هذا، اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر، أو ما هو إيمان وما هو كفر، واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين كما ذكر ذلك أبو الحسن وغيره، فلأجل اعتقادهم هذا الإجماع وقعوا فيما هو مخالف للإجماع الحقيقي، إجماع/السلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة بل وصرح غير واحد منهم بكفر من قال بقول جهم في الإيمان. ولهذا نظائر متعددة، يقول الإنسان قولاً مخالفًا للنص والإجماع القديم حقيقة، ويكون معتقدا أنه متمسك بالنص والإجماع. وهذا إذا كان مبلغ علمه واجتهاده، فالله يثيبه على ما أطاع الله فيه من اجتهاده، ويغفر له ما عجز عن معرفته من الصواب الباطن، وهم لما توهموا أن الإيمان الواجب على جميع الناس نوع واحد، صار بعضهم يظن أن ذلك النوع من حيث هو لا يقبل التفاضل. فقال لي مرة بعضهم: الإيمان من حيث هو إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان. فقلت له: قولك من حيث هو، كما تقول: الإنسان من حيث هو إنسان، والحيوان من حيث هو حيوان، والوجود من حيث هو وجود، والسواد من حيث هو سواد، وأمثال ذلك لا يقبل الزيادة والنقصان والصفات، فتثبت لهذه المسميات وجودًا مطلقًا مجردًا عن جميع القيود والصفات وهذا لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه، كما يقدر موجودًا لا قديمًا ولا حادثًا ولا قائمًا بنفسه ولا بغيره، ويقدر إنسانًا لا موجودًا ولا معدومًا، ويقول: الماهية من حيث هي هي لا توصف بوجود ولا عدم، والماهية من حيث هي هي شيء يقدره الذهن، وذلك موجود في الذهن لا في الخارج، وأما تقدير شيء لا يكون في الذهن ولا في الخارج فممتنع، وهذا التقدير لا يكون إلا في الذهن كسائر تقدير الأمور الممتنعة، مثل تقدير صدور العالم عن صانعين ونحو ذلك، فإن هذه المقدرات في الذهن. /فهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن، بل هو مجرد عن كل قيد. وتقدير إنسان لا يكون موجودا ولا معدومًا، بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين، ولا ثم إنسانية إلا ما اتصف بها الإنسان، فكل إنسان له إنسانية تخصه، وكل مؤمن له إيمان يخصه، فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمرو، ليست هي هي. وإذا اشتركوا في نوع الإنسانية فمعنى ذلك أنهما يشتبهان فيما يوجد في الخارج، ويشتركان في أمر كلي مطلق يكون في الذهن. وكذلك إذا قيل: إيمان زيد مثل إيمان عمرو، فإيمان كل واحد يخصه، فلو قدر أن الإيمان يتماثل لكان لكل مؤمن إيمان يخصه، وذلك الإيمان مختص معين ليس هو الإيمان من حيث هو هو، بل هو إيمان معين، وذلك الإيمان يقبل الزيادة، والذين ينفون التفاضل في هذه الأمور يتصورون في أنفسهم إيمانًا مطلقًا أو إنسانًا مطلقًا، أو وجودًا مطلقا مجردًا عن جميع الصفات المعينة له ثم يظنون أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس. وذلك لا يقبل التفاضل ولا يقبل في نفسه التعدد، إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره. ولهذا يظن كثير من هؤلاء أن الأمور المشتركة في شيء واحد هي واحدة بالشخص والعين، حتى انتهى الأمر بطائفة من علمائهم علمًا وعبادة إلى أن جعلوا الوجود كذلك، فتصوروا أن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود، وتصوروا هذا في أنفسهم، فظنوه في الخارج كما هو في أنفسهم، ثم ظنوا أنه الله، فجعلوا الرب هو هذا الوجود الذي لا يوجد قط إلا في نفس متصوره، ولا يكون في الخارج. / وهكذا كثير من الفلاسفة تصوروا أعدادًا مجردة وحقائق مجردة ويسمونها المثل الأفلاطونية، وزمانًا مجردًا عن الحركة والمتحرك، وبعدًا مجردًا عن الأجسام وصفاتها ثم ظنوا وجود ذلك في الخارج، وهؤلاء كلهم اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان، وهؤلاء قد يجعلون الواحد اثنين والاثنين واحدًا، فتارة يجيئون إلي الأمور المتعددة المتفاضلة في الخارج فيجعلونها واحدة أو متماثلة، وتارة يجيئون إلى ما في الخارج من الحيوان والمكان والزمان فيجعلون الواحد اثنين، والمتفلسفة والجهمية وقعوا في هذا وهذا، فجاؤوا إلى صفات الرب التي هي أنه عالم وقادر، فجعلوا هذه الصفة هي عين الأخري وجعلوا الصفة هي الموصوف. وهكذا القائلون بأن الإيمان شيء واحد وأنه متماثل في بني آدم، غلطوا في كونه واحدًا وفي كونه متماثلاً كما غلطوا في أمثال ذلك من مسائل[ التوحيد] و [الصفات] و[القرآن] ونحو ذلك، فكان غلط جهم وأتباعه في الإيمان كغلطهم في صفات الرب الذي يؤمن به المؤمنون، وفي كلامه وصفاته ـ سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. وكذلك السواد والبياض يقبل الاشتداد والضعف، بل عامة الصفات التي يتصف بها الموصوفون تقبل التفاضل؛ ولهذا كان العقل يقبل التفاضل، والإيجاب والتحريم يقبل التفاضل، فيكون إيجاب أقوى من إيجاب، وتحريم أقوى من تحريم، وكذلك المعرفة التي في القلوب تقبل التفاضل/ على الصحيح عند أهل السنة، وفي هذا كله نزاع، فطائفة من المنتسبين إلى السنة تنكر التفاضل في هذا كله كما يختار ذلك القاضي أبو بكر وابن عقيل، وغيرهما. وقد حكى عن أحمد في التفاضل في المعرفة روايتان.وإنكار التفاضل في هذه الصفات هو من جنس أصل قول المرجئة،ولكن يقوله من يخالف المرجئة،وهؤلاء يقولون: التفاضل إنما هو في الأعمال، وأما الإيمان الذي في القلوب فلا يتفاضل،وليس الأمر كما قالوه، بل جميع ذلك يتفاضل، وقد يقولون:إن أعمال القلب تتفاضل، بخلاف معارف القلب،وليس الأمر كذلك، بل إيمان القلوب يتفاضل من جهة ما وجب علي هذا، ومن جهة ما وجب على هذا، فلا يستوون في الوجوب، وأمة محمد وإن وجب عليهم جميعهم الإيمان بعد استقرار الشرع، فوجوب الإيمان بالشيء المعين موقوف على أن يبلغ العبد إن كان خبرًا، وعلى أن يحتاج إلى العمل به إن كان أمرًا، وعلى العلم به إن كان علمًا، وإلا فلا يجب على كل مسلم أن يعرف كل خبر وكل أمر في الكتاب والسنة، ويعرف معناه ويعلمه، فإن هذا لا يقدر عليه أحد. فالوجوب يتنوع بتنوع الناس فيه، ثم قدرهم في أداء الواجب متفاوتة/، ثم نفس المعرفة تختلف بالإجمال والتفصيل، والقوة والضعف، ودوام الحضور، ومع الغفلة،فليست المفصلة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها بالقول/ الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة،كالمجملة التي غفل عنها، وإذا حصل له ما يريبه فيها وذكرها في قلبه، ثم رغب إلى الله في كشف الريب، ثم أحوال القلوب وأعمالها مثل محبة الله ورسوله وخشية الله، والتوكل عليه، والصبر على حكمه، والشكر له والإنابة إليه، وإخلاص العمل له مما يتفاضل الناس فيها تفاضلاً لا يعرف قدره إلا الله ـ عز وجل ـ ومن أنكر تفاضلهم في هذا فهو إما جاهل لم يتصوره، وإما معاند. قال الإمام أحمد: فإن زعموا أنهم لا يقبلون زيادة الإيمان، من أجل أنهم لا يدرون ما زيادته، وأنها غير محدودة، فما يقولون في أنبياء الله وكتبه ورسله؟ هل يقرون بهم في الجملة؟ ويزعمون أنه من الإيمان، فإذا قالوا: نعم، قيل لهم: هل تحدونهم وتعرفون عددهم؟ أليس إنما يصيرون في ذلك إلى الإقرار بهم في الجملة، ثم يكفون عن عددهم؟ فكذلك زيادة الإيمان. وبين أحمد أن كونهم لم يعرفوا منتهى زيادته، لا يمنعهم من الإقرار بها في الجملة، كما أنهم يؤمنون بالأنبياء والكتب وهم لا يعرفون عدد الكتب والرسل. وهذا الذي ذكره أحمد، وذكره محمد بن نصر، وغيرهما، يبين أنهم لم يعلموا عدد الكتب والرسل، وأن حديث أبي ذر في ذلك لم يثبت عندهم. وأما قول من سوى بين الإسلام والإيمان وقال: إن الله سمى الإيمان بما سمى به الإسلام، وسمى الإسلام بما سمى به الإيمان، فليس كذلك، فإن الله/ ورسوله قد فسر الإيمان بأنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وبين ـ أيضًا ـ أن العمل بما أمر به يدخل في الإيمان، ولم يسم الله الإيمان بملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت إسلامًا، بل إنما سمى الإسلام الاستسلام له بقلبه وقصده وإخلاص الدين والعمل بما أمر به؛ كالصلاة والزكاة خالصًا لوجهه، فهذا هو الذي سماه الله إسلاماً وجعله دينًا، وقال: وهذا يقتضي أن كل من دان بغير دين الإسلام فعمله مردود، وهو خاسر في الآخرة، فيقتضي وجوب دين الإسلام وبطلان ما سواه، لا يقتضي أن مسمي الدين هو مسمى الإيمان، بل أمرنا أن نقول:{آمَنَّا بِاللّهِ}، وأمرنا أن نقول: وإذا جعلوا الإسلام والإيمان شيئًا واحدًا، فإما أن يقولوا: اللفظ مترادف، فيكون هذا تكريرًا محضًا ثم مدلول هذا اللفظ عين مدلول هذا اللفظ، وإما أن يقولوا: بل أحد اللفظين يدل على صفة غير الصفة الأخرى، كما في أسماء الله وأسماء كتابه، لكن هذا لا يقتضي الأمر بهما جميعًا، ولكن يقتضي أن يذكر تارة بهذا الوصف، وتارة بهذا الوصف، فلا يقول قائل: قد فرض الله عليك الصلوات الخمس، والصلاة المكتوبة، وهذا هو هذا، والعطف بالصفات يكون إذا قصد بيان الصفات لما فيها من المدح أو الذم، كقوله: وقال محمد بن نصر المروزي ـ رحمه الله ـ: فقد بين الله في كتابه وسنة رسوله أن الإسلام والإيمان لا يفترقان، فمن صدق بالله فقد آمن به، ومن آمن بالله فقد خضع له، وقد أسلم له، ومن صام وصلى وقام بفرائض الله وانتهى عما /نهى الله عنه، فقد استكمل الإيمان والإسلام المفترض عليه، ومن ترك من ذلك شيئًا فلن يزول عنه اسم الإيمان ولا الإسلام، إلا أنه أنقص من غيره في الإسلام والإيمان من غير نقصان من الإقرار بأن الله حق، وما قال حق لا باطل وصدق لا كذب، ولكن ينقص من الإيمان الذي هو تعظيم لله وخضوع للهيبة والجلال والطاعة للمصدق به، وهو الله، فمن ذلك يكون النقصان لا من إقرارهم بأن الله حق، وما قال صدق. فيقال: ما ذكره يدل على أن من أتى بالإيمان الواجب فقد أتى بالإسلام، وهذا حق، ولكن ليس فيه ما يدل عن أن من أتى بالإسلام الواجب فقد أتى بالإيمان، فقوله: من آمن بالله فقد خضع له وقد استسلم له حق، لكن أي شيء في هذا يدل على أن من أسلم لله وخضع له، فقد آمن به وبملائكته وبكتبه ورسله والبعث بعد الموت؟ وقوله: إن الله ورسوله قد بين أن الإسلام والإيمان لا يفترقان، إن أراد أن الله أوجبهما جميعًا ونهى عن التفريق بينهما، فهذا حق، وإن أراد أن الله جعل مسمي هذا مسمى هذا، فنصوص الكتاب والسنة تخالف ذلك، وما ذكر قط نصًا واحدًا يدل على اتفاق المسلمين. و كذلك قوله: من فعل ما أمر به وانتهى عما نهى عنه فقد استكمل الإيمان والإسلام، فهذا صحيح إذا فعل ما أمر به باطنًا وظاهرًا، ويكون قد استكمل الإيمان والإسلام الواجب عليه، ولا يلزم أن يكون إيمانه وإسلامه مساويًا للإيمان والإسلام الذي فعله أولو العزم من الرسل؛ كالخليل إبراهيم، ومحمد خاتم /النبيين عليهما الصلاة والسلام، بل كان معه من الإيمان والإسلام ما لا يقدر عليه غيره ممن ليس كذلك ولم يؤمر به. وقوله: من ترك من ذلك شيئًا فلن يزول عنه اسم الإسلام والإيمان إلا أنه أنقص من غيره في ذلك. فيقال: إن أريد بذلك أنه بقي معه شيء من الإسلام والإيمان، فهذا حق كما دلت عليه النصوص، خلافًا للخوارج والمعتزلة، وإن أراد أنه يطلق عليه بلا تقييد مؤمن ومسلم في سياق الثناء والوعد بالجنة، فهذا خلاف الكتاب والسنة، ولو كان كذلك لدخلوا في قوله: وأيضًا، فصاحب الشرع قد نفى عنهم الاسم في غير موضع، بل قال:( قتال المؤمن كفر)،وقال:(لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض).وإذا احتج بقوله: وكذلك قوله: لا يكون النقصان من إقرارهم بأن الله حق وما قاله صدق، فيقال: بل النقصان يكون في الإيمان الذي في القلوب من معرفتهم ومن علمهم فلا تكون معرفتهم وتصديقهم بالله وأسمائه وصفاته، وما قاله من أمر ونهي،ووعد ووعيد، كمعرفة غيرهم وتصديقه، لا من جهة الإجمال والتفصيل، ولا من/ جهة القوة والضعف، ولا من جهة الذكر والغفلة، وهذه الأمور كلها داخلة في الإيمان بالله وبما أرسل به رسوله، وكيف يكون الإيمان بالله وأسمائه وصفاته متماثلاً في القلوب؟! أم كيف يكون الإيمان بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه غفور رحيم، عزيز حكيم، شديد العقاب، ليس هو من الإيمان به؟! فلا يمكن مسلمًا أن يقول: إن الإيمان بذلك ليس من الإيمان به ولا يدعي تماثل الناس فيه. وأما ما ذكره من أن الإسلام ينقص كما ينقص الإيمان، فهذا ـ أيضًا ـ حق كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فإن من نقص من الصلاة والزكاة أو الصوم أو الحج شيئًا، فقد نقص من إسلامه بحسب ذلك. ومن قال: إن الإسلام هو الكلمة فقط، وأراد بذلك أنه لا يزيد ولا ينقص، فقوله خطأ. ورد الذين جعلوا الإسلام والإيمان سواء إنما يتوجه إلى هؤلاء، فإن قولهم في الإسلام يشبه قول المرجئة في الإيمان. /ثم هؤلاء منهم من يقول: الإسلام مجرد القول. والأعمال ليست من الإسلام، والصحيح أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة كلها، وأحمد إنما منع الاستثناء فيه على قول الزهري: هو الكلمة. هكذا نقل الأثرم،والميموني وغيرهما عنه، وأما على جوابه الآخر الذي لم يختر فيه قول من قال: الإسلام الكلمة، فيستثنى في الإسلام كما يستثنى في الإيمان، فإن الإنسان لا يجزم بأنه قد فعل كل ما أمر به من الإسلام، وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده)،و(بني الإسلام على خمس)، فجزمه بأنه فعل الخمس بلا نقص كما أمر كجزمه بإيمانه، فقد قال تعالى: وتعليل أحمد وغيره من السلف ما ذكروه في اسم الإيمان يجيء في اسم الإسلام، فإذا أريد بالإسلام الكلمة فلا استثناء فيه،كما نص عليه أحمد وغيره،وإذا أريد به من فعل الواجبات الظاهرة كلها، فالاستثناء فيه كالاستثناء في الإيمان،ولما كان كل من أتى بالشهادتين صار مسلمًا متميزًا عن اليهود والنصارى،تجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على المسلمين،كان هذا مما يجزم به بلا استثناء فيه؛فلهذا قال الزهري: الإسلام الكلمة، وعلى ذلك وافقه أحمد وغيره،وحين وافقه لم يرد أن الإسلام الواجب هو الكلمة وحدها، فإن الزهري أجل من أن يخفى عليه ذلك؛ولهذا أحمد لم يجب بهذا في جوابه الثاني خوفًا من أن يظن أن الإسلام ليس هو إلا الكلمة،ولهذا لما قال الأثرم/ لأحمد:فإذا قال:أنا مسلم فلا يستثني؟ قال نعم:لايستثنى إذا قال:أنا مسلم،فقلت له أقول:هذا مسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) وأنا أعلم أنه لا يسلم الناس منه،فذكر حديث مَعْمَر عن الزهري قال:فنري أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل. فبين أحمد أن الإسلام إذا كان هو الكلمة فلا استثناء فيها، فحيث كان هو المفهوم من لفظ الإسلام فلا استثناء فيه، ولو أريد بالإيمان هذا، كما يراد ذلك في مثل قوله: فإذا قال الإنسان: أنا مؤمن قطعًا، وأنا مؤمن عند الله. قيل له: فاقطع بأنك تدخل الجنة بلا عذاب إذا مت على هذا الحال،فإن الله أخبر أن المؤمنين/في الجنة. وأنكر أحمد ابن حنبل حديث ابن عَمِيرة أن عبد الله رجع عن الاستثناء؛ فإن ابن مسعود لما قيل له: إن قومًا يقولون: إنا مؤمنون،فقال: أفلا سألتوهم أفي الجنة هم؟ وفي رواية: أفلا قالوا: نحن أهل الجنة، وفي رواية قيل له: إن هذا يزعم أنه مؤمن، قال: فاسألوه أفي الجنة هو أو في النار؟ فسألوه فقال: الله أعلم، فقال له عبد الله: فهلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية؟ من قال: أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال: أنا عالم فهو جاهل، ومن قال: هو في الجنة فهو في النار، يروى عن عمر بن الخطاب من وجوه مرسلاً من حديث قتادة ونعيم ابن أبي هند وغيرهما. والسؤال الذي تورده المرجئة على ابن مسعود ويقولون: إن يزيد بن عميرة أورده عليه حتى رجع، جعل هذا أن الإنسان يعلم حاله الآن، وما يدري ماذا يموت عليه؛ ولهذا السؤال صار طائفة كثيرة يقولون: المؤمن هو من سبق في علم الله أنه يختم له بالإيمان، والكافر من سبق في علم الله أنه كافر، وأنه لا اعتبار بما كان قبل ذلك، وعلى هذا يجعلون الاستثناء، وهذا أحد قولي الناس من أصحاب أحمد وغيرهم وهو قول أبي الحسن وأصحابه. ولكن أحمد وغيره من السلف لم يكن هذا مقصودهم، وإنما مقصودهم أن الإيمان المطلق يتضمن فعل المأمورات، فقوله: أنا مؤمن، كقوله: أنا ولي الله، وأنا مؤمن تقي، وأنا من الأبرار، ونحو ذلك.وابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ لم يكن يخفى عليه أن الجنة لا تكون إلا لمن مات مؤمنًا، وأن الإنسان لا يعلم على ماذا يموت/ فإن ابن مسعود أجل قدرًا من هذا، وإنما أراد: سلوه هل هو في الجنة إن مات على هذه الحال؟ كأنه قال: سلوه أيكون من أهل الجنة على هذه الحال؟ فلما قال: الله ورسوله أعلم، قال: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية؟ يقول: هذا التوقف يدل على أنك لا تشهد لنفسك بفعل الواجبات وترك المحرمات. فإنه من شهد لنفسه بذلك شهد لنفسه أنه من أهل الجنة إن مات على ذلك؛ ولهذا صار الذين لا يرون الاستثناء لأجل الحال الحاضر،بل للموافاة، لا يقطعون بأن الله يقبل توبة تائب، كما لا يقطعون بأن الله ـ تعالى ـ يعاقب مذنبًا، فإنهم لو قطعوا بقبول توبته، لزمهم أن يقطعوا له بالجنة، وهم لا يقطعون لأحد من أهل القبلة لا بجنة ولا نار، إلا من قطع له النص. وإذا قيل: الجنة هي لمن أتى بالتوبة النصوح من جميع السيئات. قالوا: ولو مات على هذه التوبة لم يقطع له بالجنة، وهم لا يستثنون في الأحوال، بل يجزمون بأن المؤمن مؤمن تام الإيمان، ولكن عندهم الإيمان عند الله هو ما يوافي به، فمن قطعوا له بأنه مات مؤمنًا لا ذنب له قطعوا له بالجنة، فلهذا لا يقطعون بقبول التوبة لئلا يلزمهم أن يقطعوا بالجنة، وأما أئمة السلف فإنما لم يقطعوا بالجنة لأنهم لا يقطعون بأنه فعل المأمور وترك المحظور، ولا أنه أتى بالتوبة النصوح، وإلا فهم يقطعون بأن من تاب توبة نصوحًا، قبل الله توبته. وجماع الأمر: أن الاسم الواحد ينفى ويثبت بحسب الأحكام المتعلقة به،فلا يجب إذا أثبت أو نفى في حكم أن يكون كذلك في سائر الأحكام،وهذا في/كلام العرب وسائر الأمم؛ لأن المعنى مفهوم. مثال ذلك: المنافقون قد يجعلون من المؤمنين في موضع، وفي موضع آخر يقال: ما هم منهم، قال الله تعالى: ولهذا لما استؤذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل بعض المنافقين قال:(لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)؛ فإنهم من أصحابه في الظاهر عند من لا يعرف حقائق الأمور، وأصحابه الذين هم أصحابه ليس فيهم نفاق/ كالذين علموا سنته الناس وبلغوها إليهم وقاتلوا المرتدين بعد موته، والذين بايعوه تحت الشجرة وأهل بدر وغيرهم، بل الذين كانوا منافقين غمرتهم الناس. وكذلك الأنساب، مثل كون الإنسان أبًا لآخر أو أخاه، يثبت في بعض الأحكام دون بعض،فإنه قد ثبت في الصحيحين أنه لما اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص وعبد ابن زَمْعَة بن الأسود، في ابن وليدة زمعة، وكان عتبة بن أبي وقاص قد فجر بها في الجاهلية وولدت منه ولدًا، فقال عتبة لأخيه سعد: إذا قدمت مكة فانظر ابن وليدة زمعة فإنه ابني،فاختصم فيه هو وعبد بن زمعة إلى النبي صلىالله عليه وسلم فقال سعد: يا رسول الله، ابن أخي عتبة عهد إلىَّ أخي عتبة فيه إذا قدمت مكة انظر إلى ابن وليدة زمعة فإنه ابني، ألا ترى يا رسول الله شبهه بعتبة؟ فقال عبد:يا رسول الله، أخي وابن وليدة أبي؛ ولد على فراش أبي، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم شبهًا بينًا بعتبة فقال:(هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة) لما رأى من شبهه البين بعتبة. فقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم ابن زمعة لأنه ولد على فراشه، وجعله أخًا لولده بقوله:( فهو لك يا عبد بن زمعة)، وقد صارت سودة أخته يرثها وترثه؛ لأنه ابن أبيها زمعة ولد على فراشه، ومع هذا فأمرها النبي/ صلى الله عليه وسلم أن تحتجب منه لما رأى من شبهه البين بعتبة، فإنه قام فيه دليلان متعارضان: الفراش والشبه، والنسب في الظاهر لصاحب الفراش أقوى، ولأنها أمر ظاهر مباح والفجور أمر باطن لا يعلم ويجب ستره لا إظهاره، كما قال:(للعاهر الحجر) كما يقال: بِفيِكَ الكَثْكَث وبفيك الأثْلَب، أي: عليك أن تسكت عن إظهار الفجور، فإن الله يبغض ذلك، ولما كان احتجابها منه ممكنًا من غير ضرر، أمَرها بالاحتجاب لما ظهر من الدلالة على أنه ليس أخاها في الباطن. فتبين أن الاسم الواحد ينفى في حكم ويثبت في حكم، فهو أخ في الميراث وليس بأخ في المحرمية، وكذلك ولد الزنا عند بعض العلماء، وابن الملاعنة عند الجميع إلا من شذ، ليس بولد في الميراث ونحوه، وهو ولد في تحريم النكاح والمحرمية. ولفظ النكاح وغيره في الأمر، يتناول الكامل، وهو العقد والوطء كما في قوله: وكذلك كل ما يكون له مبتدأ وكمال، ينفى تارة باعتبار انتفاء كماله، ويثبت تارة باعتبار ثبوت مبدئه، فلفظ الرجال يعم الذكور وإن كانوا صغارًا في مثل قوله: وبهذين المثلين كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتنع من عقوبة المنافقين، فإن فيهم من لم يكن يعرفهم كما أخبر الله بذلك، والذين كان يعرفهم لو عاقب بعضهم لغضب له قومه، ولقال الناس: إن محمدًا يقتل أصحابه،فكان يحصل بسبب ذلك/نفور عن الإسلام، إذ لم يكن الذنب ظاهرًا، يشترك الناس في معرفته، ولما هم بعقوبة من يتخلف عن الصلاة، منعه من في البيوت من النساء والذرية، وأما مبدؤه فيتعلق به خطاب الأمر والنهي، فإذا قال الله: وأما من كان معه أول الإيمان، فهذا يصح منه؛ لأن معه إقراره في الباطن بوجوب ما أوجبه الرسول، وتحريم ما حرمه، وهذا سبب الصحة، وأما كماله فيتعلق به خطاب الوعد بالجنة والنصرة والسلامة من النار، فإن هذا الوعد إنما هو لمن فعل المأمور وترك المحظور، ومن فعل بعضا وترك بعضًا، فيثاب على ما فعله، ويعاقب على ما تركه، فلا يدخل هذا في اسم المؤمن المستحق للحمد والثناء، دون الذم والعقاب، ومن نفى عنه الرسول الإيمان، فنفى الإيمان في هذا الحكم؛ لأنه ذكر ذلك على سبيل الوعيد. والوعيد إنما يكون بنفي ما يقتضي الثواب، ويدفع العقاب؛ ولهذا ما في الكتاب والسنة من نفي الإيمان/ عن أصحاب الذنوب، فإنما هو في خطاب الوعيد والذم، لا في خطاب الأمر والنهي، ولا في أحكام الدنيا. واسم الإسلام والإيمان والإحسان هي أسماء ممدوحة مرغوب فيها لحسن العاقبة لأهلها،فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن العاقبة الحسنة لمن اتصف بهـا على الـوجـه الـذي بينـه ولهـذا كان مـن نفـى عنهم الإيمان أو الإيمـان والإسلام جميعًا ولـم يجعلهم كفارا،إنمــا نفى ذلك فــي أحكام الآخرة، وهو الثواب، لم ينفه في أحكام الدنيا، لكن المعتزلة ظنت أنه إذا انتفى الاسم انتفت جميع أجزائه، فلم يجعلوا معهم شيئًا من الإيمان والإسلام، فجعلوهم مخلدين في النار، وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف، ولو لم يكن معهم شيء من الإيمان والإسلام، لم يثبت في حقهم شيء من أحكام المؤمنين والمسلمين، لكن كانوا كالمنافقين، وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع التفريق بين المنافق الذي يكذب الرسول في الباطن، وبين المؤمن المذنب،فالمعتزلة سووا بين أهل الذنوب وبين المنافقين في أحكام الدنيا والآخرة في نفي الإسلام والإيمان عنهم، بل قد يثبتونه للمنافق ظاهرًا، وينفونه عن المذنب باطنًا وظاهرًا. فإن قيل: فإذا كان كل مؤمن مسلمًا، وليس كل مسلم مؤمنًا ـ الإيمان الكامل ـ كما دل عليه حديث جبريل وغيره من الأحاديث مع القرآن، وكما ذكر ذلك عمن ذكر عنه من السلف؛ لأن الإسلام الطاعات الظاهرة، وهو الاستسلام والانقياد؛ لأن الإسلام في الأصل هو الاستسلام والانقياد،/ وهذا هو الانقياد والطاعة، والإيمان فيه معنى التصديق والطمأنينة، وهذا قدر زائد، فما تقولون فيمن فعل ما أمره الله وترك ما نهى الله عنه مخلصًا لله ـ تعالى ظاهرًا وباطنًا؟ أليس هذا مسلمًا باطنًا وظاهرًا، وهو من أهل الجنة، وإذا كان كذلك فالجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة، فهذا يجب أن يكون مؤمنًا. قلنا: قد ذكرنا غير مرة، أنه لابد أن يكون معه الإيمان الذي وجب عليه. إذ لو لم يؤد الواجب لكان معرضًا للوعيد، لكن قد يكون من الإيمان ما لا يجب عليه إما لكونه لم يخاطب به، أو لكونه كان عاجزًا عنه، وهذا أولى؛ لأن الإيمان الموصوف في حديث جبريل والإسلام، لم يكونا واجبين في أول الإسلام، بل ولا أوجبا على من تقدم قبلنا من الأمم اتباع الأنبياء أهل الجنة، مع أنهم مؤمنون مسلمون، ومع أن الإسلام دين الله الذي لا يقبل دينًا غيره، وهو دين الله في الأولين والآخرين، لأن الإسلام عبادة الله وحده لا شريك له بما أمر فقد تتنوع أوامره في الشريعة الواحدة، فضلاً عن الشرائع، فيصير في الإسلام بعض الإيمان بما يخرج عنه في وقت آخر، كالصلاة إلى الصخرة، كان من الإسلام حين كان الله أمر به، ثم خرج من الإسلام لما نهى الله عنه. ومعلوم أن الخمس المذكورة في حديث جبريل، لم تجب في أول الأمر، بل الصيام والحج وفرائض الزكاة، إنما وجبت بالمدينة، والصلوات الخمس إنما/ وجبت ليلة المعراج، وكثير من الأحاديث ليس فيها ذكر الحج لتأخر وجوبه إلى سنة تسع أو عشرعلى أصح القولين، ولما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم كان من اتبعه وآمن بما جاء به مؤمنًا مسلمًا، وإذا مات كان من أهل الجنة ثم إنه بعد هذا زاد [الإيمان، والإسلام] حتى قال تعالى: وإذا كان كذلك، فقد يكون الرجل مسلمًا يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا، ومعه الإيمان الذي فرض عليه، وهو من أهل الجنة وليس معه هذا الإيمان المذكور في حديث جبريل، لكن هذا يقال: معه ما أمر به من الإيمان والإسلام، وقد يكون مسلمًا يعبد الله كما أمر، ولا يعبد غيره ويخافه، ويرجوه، ولكن لم يخلص إلى قلبه أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولا أن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليه من جميع أهله وماله، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يخاف الله لا يخاف غيره، وألا يتوكل إلا على الله، وهذه كلها من الإيمان الواجب، وليست من لوازم الإسلام، فإن الإسلام هو الاستسلام وهو يتضمن الخضوع لله وحده، والانقياد له، والعبودية لله وحده، وهذا قد يتضمن خوفه ورجاءه، وأما طمأنينة القلب بمحبته وحده، وأن يكون أحب إليه مما سواهما، وبالتوكل عليه وحده، وبأن يحب لأخيه المؤمن ما يحب/ لنفسه، فهذه من حقائق الإيمان التي تختص به، فمن لم يتصف بها، لم يكن من المؤمنين حقًا وإن كان مسلمًا، وكذلك وجل قلبه إذا ذكر الله، وكذلك زيادة الإيمان إذا تليت عليه آياته. فإن قيل: ففوات هذا الإيمان من الذنوب أم لا؟ قيل: إذا لم يبلغ الإنسان الخطاب الموجب لذلك، لا يكون تركه من الذنوب، وأما إن بلغه الخطاب الموجب لذلك فلم يعمل به كان تركه من الذنوب إذا كان قادرًا على ذلك، وكثير من الناس أو أكثرهم ليس عندهم هذه التفاصيل التي تدخل في الإيمان، مع أنهم قادمون بالطاعة الواجبة في الإسلام، وإذا وقعت منهم ذنوب تابوا واستغفروا منها، وحقائق الإيمان التي في القلوب لا يعرفون وجوبها، بل ولا أنها من الإيمان بل كثير ممن يعرفها منهم، يظن أنها من النوافل المستحبة إن صدق بوجوبها. فالإسلام يتناول من أظهر الإسلام وليس معه شيء من الإيمان، وهو المنافق المحض، ويتناول من أظهر الإسلام مع التصديق المجمل في الباطن، ولكن لم يفعل الواجب كله لا من هذا ولا هذا، وهم الفساق يكون في أحدهم شعبة نفاق، ويتناول من أتى بالإسلام الواجب وما يلزمه من الإيمان، ولم يأت بتمام الإيمان الواجب، وهؤلاء ليسوا فساقًا، تاركون فريضة ظاهرة، ولا مرتكبون محرمًا ظاهرًا، لكن تركوا من حقائق الإيمان الواجبة علمًا وعملاً بالقلب يتبعه بعض الجوارح ما كانوا به مذمومين. /وهذا هو النفاق الذي كان يخافه السلف على نفوسهم،فإن صاحبه قد يكون فيه شعبة نفاق،وبعد هذا ما ميز الله به المقربين على الأبرار أصحاب اليمين من إيمان وتوابعه، وذلك قد يكون من باب المستحبات، وقد يكون ـ أيضًا ـ مما فضل به المؤمن إيمان وإسلام مما وجب عليه، ولم يجب علي غيره؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وفي الحديث الآخر:(ليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل)، فإن مراده أنه لم يبق بعد هذا الإنكار ما يدخل في الإيمان حتى يفعله المؤمن، بل الإنكار بالقلب آخر حدود الإيمان، ليس مراده أن من لم ينكر ذلك لم يكن معه من الإيمان حبة خردل؛ ولهذا قال:(ليس وراء ذلك)، فجعل المؤمنين ثلاث طبقات، وكل منهم فعل الإيمان الذي يجب عليه، لكن الأول لما كان أقدرهم، كان الذي يجب عليه أكمل مما يجب على الثاني، وكان ما يجب على الثاني أكمل مما يجب على الآخر، وعلم بذلك أن الناس يتفاضلون في الإيمان الواجب عليهم بحسب استطاعتهم مع بلوغ الخطاب إليهم كلهم.
|